03‏/07‏/2009

الفصل التـــاسع




ساد صمت طويل ... حتى غطت الطفلة في نوم عميق بعد ذلك الإجهاد العصبي الذي عانته منذ قدومى في أحضان هند أخت إسراء الصغرى ... وحملت هند الطفلة لتضعها في فراشها.

أما أنا فقد كنت في دوامة طويلة وأنا أتذكر تاريخا قديما ... لشخص يدعى حسن الصواف ... ابن رجل الأعمال المشهور محمد الصواف، الذي تم اتهامه في أحداث قديمة .. فقد كان صاحب أشهر شركات توظيف الأموال، وكان يخفى أعمالا كثيرة غير مشروعة في الدولة ولكن علاقاته القوية كانت تخفى الأمور دائما، وكانت نشأتهم عادية مثلنا جميعا، لكن حسن كان دائما يكرهني، لتفوقي الدائم في الدراسة عليه، وكنت ألاحظ دائما نظرات الحنق والحسد منه عندما يشاهدنى وأنا أمشي في الشارع برفقة إسراء، وكان دائم التحرش بها، ولكن بعد ذلك الثراء المفاجئ الذى أصاب والده، انتقلوا لإحدى الفلل بأرقى أحياء القاهرة، وكنا نسمع الأخبار من حين لآخر عن ابنه حسن الذي ألحقه والده بالجامعة الأمريكية، ثم جاء خبر فضيحة والده ... وهروبه إلى الخارج ... وانقطعت الاخبار عن محمد وولده منذ ذلك الحين ... وتقدمت بعدها إلى خطبة إسراء ... ورفضنى والدها ...

تاريخ غريب، ولكني لم أقدر على نسيانه أبدا ... وبدأت استنتج الخطوات بعد زواجى من زوجتى منال ... وتخيلت حسن وقد تقدم لخطبة إسراء، بالأموال المهربة إلى الخارج، وبالطبع لم يكن أمام والد إسراء سوى الموافقة وإتمام الزواج في سرعة ... والغريب أنني لم أفكر طوال ذلك الوقت، في مجرد الزيارة لمنزلي القديم، أو محاولة الاتصال بإسراء التى فقدت الأمل في الاتصال بي مرة أخرى بعد أن غادرت المكان دون رجعة ...

أفقت من افكاري علي صوت أقدام هند وهي تسير نحو الطاولة لتضع أمامي قدح القهوة في صمت ثم تتحرك في خطوات مضطربة لتتخذ مقعدا يبعد عنى قليلا

وبدأ الفضول يأكلنى لمعرفة صحة ما وصلت إليه فاعتدلت في مقعدى وأنا أسأل هند في هدوء حقيقي
- اعتذر يا هند عن تصرفي، ولكني في حاجة لمعرفة ماهو مصير حسن الصواف الآن

نظرت إلي هند في ارتياب ثم اجابتنى في اقتضاب:

- لقد غادر البلاد منذ أكثر من أربع سنوات ... وانفصل عن اختى وهو خارج البلاد، بعد أن حجرت الحكومة المصرية على باقى أملاك والده. ولا يعلم أحد عنه شيئا حتى الآن

التقطت قدح القهوة وأنا أرتشف منه رشفة صغيرة لأسألها قائلا
- وماذا عن اختك، هل كانت سعيدة في حياتها معه؟

هزت هند رأسها في قوة وهي تقول
- مطلقا، فقد كان يعاملها كالجارية، وكان يخفى في أعماقه انطباعات غريبة ولكنه كان شديد الدهاء والمكر في تصرفاته حتى ....
قطعت حديثها وهي تنظر إلى الأرض في مرارة وتعض شفتها السفلى

وكنت أتحرق شوقا لمعرفة الأحداث ولكني انتظرت في صبر

وأكملت هند مستطردة
- حتى قام بالتحرش بي جنسيا

اندفعت دموع هند في حرارة عند تلك النقطة ولم أقدر على فعل شيء، فقد شعرت بالذنب وكأنى أنا السبب في كل ما جرى لإسراء وأختها ... لم أكن أدري ماذا أفعل ....

سوى أن أنهض من على المقعد وأغادر المكان وأغلق الباب خلفي في هدوء، وأستقل سيارتي وانطلق على غير هدى في شوارع العاصمة حتى توقفت أمام كورنيش النيل ....

وغادرت سيارتى ووقفت اتأمله في صمت ...

فقد أصبحت الأمور معقدة للغاية، بعد كل ما سببته من ألم لإسراء وأختها ... وافتراقنا طوال هذه السنين، حتى أنجبت طفلتها من حسن الصواف، وتذكرت تلك الدمعة ... التى ذرفتها إسراء عندما كانت في أحضاني ... تذكرتها جيدا وشعرت بما كانت تعانيه من ألم

شعرت بقسوة القدر ... وقرار أبي ... ضابط الامن الذى لم يحافظ على حياتى واستقرارى ... وإجباره لي على زواجي من منال ... ابنة المحافظ في ذلك الوقت ... لأغراضه الشخصية، واقتناعه بأن هذا هو القرار الصائب ...

وها نحن الآن ندفع ثمن أخطائهم .

أطلقت زفرة حارة بما يعتمل في نفسي عندما وصل تفكيري عند تلك النقطة ... وتلفت حولي. ووجدت فتى وفتاة يمشيان الهوينى بجانب الكورنيش ويتهامسان وهما يمسكان بأكف بعضهما البعض، فابتسمت في حنان، وغادرت المكان في هدوء .. تاركا لهما المكان

لأستقل سيارتي، وأنطلق عائدا إلى المنزل ... لأبدء في رسم حياة جديدة ... لا أعلم إلى أين ستقودني ...


دقت الساعة الثامنة مساء وأنا ألتقط سلسلة مفاتيحي وأنا أفتح باب المنزل بعدما أرهقني التجول في أنحاء المدينة ...

ودخلت إلى البيت في خطوات هادئة ... واهنة ... وأفرغت متعلقاتى على الطاولة كعادتى دائما ... وكان المنزل هادئا جدا.

حتى تحركت في سرعة إلى حجرة ابنتي لأجدها تغط في نوم عميق، فتنفست الصعداء وصعدت درجات السلم في سرعة إلى حجرة نومي. ودنا إلى أذني صوت خرير الماء معلنا أخذ زوجتي منال لحمامها اليومي، وفي برود روتيني ... توجهت إلي ركن الحجرة لألتقط منامتي وأنا أفكر في كل المجريات التى ألقتها لي الحياة في هذا اليوم، وقاطعني رنين هاتف زوجتى الخليوى.

فألقيت نظرة خاوية على الهاتف وأنا أصيح في زوجتى

- إنها مكالمة لك يا منال

ويبدو أن منال كانت مستغرقة تماما لدرجة أنها لم تنتبه إلي، فمطيت شفتي في لا مبالاة وفتحت باب الحجرة

وتسمرت في مكانى

شئ ما قفز إلى عقلي بعد كل ما جرى، وربطت الأحداث الجديدة مع ظهور حسن الصواف في حياتى مجددا، وبقفزة واسعة ... التقطت الهاتف، وتصاعدت الدهشة والشك في أعماقي إلى ذروتها

فقد كان الهاتف لا يحمل رقم المتصل

وبكل ما يجول في عقلى من انفعال ، ضغط على زر الاجابة ....

وبكل قسوة


ألقت إسراء جسدها على الأريكة المفضلة لديها في المنزل وهي تلتقط أنفاسها في صعوبة، وتشير إلى أختها قائلة وهي تخلع حذاءها

- من فضلك يا هند، إنني أتوق إلى فنجال من القهوة .... وبشدة

نظرت هند إلى أختها الكبرى في اشفاق وهي تومئ برأسها وتتجه إلى المطبخ في هدوء.

والتقطت الريموت الخاص بجهاز التلفاز وأخذت تقلب في القنوات الفضائية في ملل حتى ظهرت أختها وهي تحمل صينية القهوة وتضعها أمامها وتجلس إلى جوارها.

شكرتها إسراء بتمتمة غير مفهومة وهي ترتشف القدح في استمتاع مرهق، حتى لاحظت إسراء أن أختها الصغرى لم تزح نظرها عنها وهي تحدق بها، فضحكت في توتر وهي تقول

- مالذى أصابك يا هند، هل تريني لأول مرة؟!

ابتسمت وهي تخفض نظرها إلى الطاولة التى تتوسطهما وهي تتمم في خفوت

- لقد جاء أستاذ مدحت إلى هنا

ابتسمت إسراء وهي تتوقع حدوث هذا، فهزت كتفيها في لامبالاة وهي تكمل ارتشاف قهوتها في هدوء

لم تلبث هند أن حسمت أمرها ورفعت رأسها وهي تنظر مباشرة إلى إسراء قائلة

- لقد أخبرته بشأن زواجك من حسن الصواف

وسقط قدح القهوة لينكسر فوق أرضية الغرفة ...

وبمنتهى العنف ...


- من المتصل ؟؟؟

هتفت بتلك العبارة وقد شارف حاجباى على الامتزاج من شدة انعقادهما معا ..

ولم أتلق جوابا من الطرف الآخر، لكنى سمعت شبح ضحكة ما .. أو هكذا خيل لي ...

- ماذا تفعل يا مدحت؟

علا صوت زوجتى بتلك العبارة ليرتعش جسدى ويسقط الهاتف من يدي ليسقط هو الآخر على الأرضية ويظهر ذلك الشرخ على شاشته العريضة وانا التفت إليها صارخا

- من الذى كان يحادثك

تطلعت إلي منال لعدة ثوان بانفعال لم أستطع تحديده ثم أجابت في حدة وهي تشير إلى الهاتف

- أنت الذي يجب أن تجيب هذا السؤال، فقد سمحت لنفسك بالإجابة

ارتجف جسدي أكثر وأنا أصرخ

- إنه لم يجبني، وكان الرقم محجوبا، أخبريني أنت من الذي يحادثك

صرخت منال وهي تلقى بالمنشفة على الفراش وقد انتقلت لها عدوى الصراخ

- مالذى دهاك يا مدحت؟ منذ متى وأنت تسألني عن من يحادثني، لتفحص الأرقام في الفاتورة القادمة بنفسك

وتركتنى لتجلس أمام المرآة وهي تعدل من زينتها وكأن شيئا لم يكن وأنا أنظر إليها وأكاد أحترق من فرط الغضب حتى صحت فجأة

- منذ متى وأنت تأخذين حمامك في هذا الموعد؟

توقفت منال عن وضع زينتها وهي تلتفت إلي محدقة بي غير مصدقة وهي تسألنى

- ماذا تقصد؟

شعرت أنني قد ضربت على الوتر الحساس وأنا أصيح في هياج حقيقي بعد ان تأكدت من ذلك

- أعنى أن هناك شخصا ما يدخل منزلي، أقصد أنك خائنة، أقصد أنك ساقطة رخيصة

ورفعت يدي اليمنى لأنهال علي زوجتى بصفعة هزت كيانها وهي تقف محدقة بي في ذهول، وتناهى إلى أذني صوت ابنتي وهي تركض مسرعة إلى الحجرة منادية باسم زوجتي

وتسمرت منال لعدة ثوان، وتوقفت ابنتي لتتجمد هي الأخرى في مكانها وهي تشاهدنا لأول مرة بهذا الموقف

ثم رفعت منال ذراعها الأيسر وهي تشير إلى باب الحجرة قائلة في صوت متحشرج

- غادر منزلى يا مدحت، لا أريد أن أراك هنا مجددا

تراجعت خطوتين إلى الوراء غير مصدق لما أسمعه وأكملت منال حديثها قائلة

- إن هذا منزلي، وبما إننى أصبحت الخائنة، فلا يحق لك البقاء فيه

ظللت أحدق في وجه زوجتى وكأنى أراها لأول مرة حتى صاحت بشكل هستيري

- قلت لك اغرب عن وجهي

وانطلق بكاء ابنتنا يشق سكون الليل وأنا أهرول من المنزل ... وكأن كل شياطين الجحيم تلاحقنى

وأدرت محرك السيارة وأنا أدير عيني في المنطقة لأشاهد الجميع ينظرون إلي من نوافذ حجراتهم

وانطلقت سيارتى مطلقة صريرا مزعجا نحو هدف واحد

منزل إســراء

تاركا خلفي دون أن أدري ... زوجتى منال

وهي تلتقط سماعة الهاتف وتطلب رقما خاصا

رقم الشيطـــان ..

شخصيا ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق